جريدة المدينة المنوّرة العدد 8742
الاثنين 8 شوال 1411هـ 23 أبريل 1991م.
مـن معـالم المـدينـة النّبـويّـة
الخنــــدق
بقلم: الدكتور أبي مجاهد عبد العزيز بن عبد الفتّاح القارئ
من يعرف تحديد الخندق - اليوم - يصعب عليه تطبيقه على الطّبيعة؛ لتفشّي العمران من كلّ جوانبه
وصف الخندق:
أمّا طوله: فمن «أَجَم الشَّيخين» أي «سفح ذُباب» ثمّ إلى «جبل بني عُبَيد»: كيلان ونصف تقريبا؛ وهذا يعادل خمس وثمانين وأربعة آلاف ذراع(1).
وأمّا عرضه: فينبغي أن يكون اكثر من مدى قفزة الفرس، والفرس تقفز إلى ستّة أذرع، وربّما أكثر(2) إذن فعرض الخندق أكثر من ذلك: أي هو من ثمانية أذرع إلى تسعة؛ وهذا يعادل خمسة أمتار ونصف متر.
وأمّا عمقه: فقالوا: بسطة: كما جاء في رواية «الواقديّ»(3).
قال «الصّالحيّ»: البسطة المنبسطة المستوية من الأرض(4).
قلت: إنّّ هذا، وإن صحّ لغة: لكنّه ليس هو المراد هنا.
قال في «أساس البلاغة»: وحفر قامة باسطة وبسطة: ومن أن يمدّ يده رافعها(5).
إذن، فالمراد ما يعادل قامة رجل معتدل رافعا يديه: من أصابع يديه إلى قدميه؛ فإذا كانت قامة الرّجل المعتدل ثلاثة أذرع إلا قليلاً؛ يضاف إليها ذراع ونصف طول يده مرفوعة فوق رأسه؛فهذه أربعة أذرع ونصف إلا قليلا، ولا شكّ أنّهم حفروا أكثر من ذلك، حتّى لا يمكن من يسقط في الخندق أن يخرج منه؛ كما ورد أنّه حدث لبعض فرسان المشركين.
فإذن: عمق الخندق خمسة اذرع؛ وهذا يعادل ثلاثة أمتار تقريبا؛ ولذلك قال في الرّواية: والخندق بسطة أو نحوها.
ومّما يؤيّد هذا رواية في «الواقديّ» عن جابر بن عبد الله، قال: لقد كنت أرى سلمان - يومئذ - وقد جعلوا له خمسة أذرع طولا وخمسا في الأرض(6).
ثمّ روي أنّهم كانوا يجعلون التّراب ممّا يلي النبيّ - صلّى الله عليه وسلّم(7) أي: جهة المدينة؛ وهذا السّاتر يؤدّي هدفا عسكرياً مهماً؛ إذا يمثل العائق الثّاني بعد الخندق.
ثّم روي أنّهم كانوا يسطّرون الحجارة - أيضا - ممّا يليهم(8)؛ أي يصفّونها؛ وهذا مع كونه عائقا عسكريّا؛ فهو سلاح إذا رموا به العدوّ؛ وهو في الطّرف الآخر من الخندق، وورد ما يفيد -أيضا- أنّهم بنوا جدارنه باللّبن(9) فلعلّهم ثّبتوا جدرانه بذلك في بعض نواحيه، خاصّة في المناطق التي تكون الأرض فيها رخوة.
مّدة حفر الخندق:
ورد أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - بعد أن خطّ الخندق قسمه قسمين: فالمهاجرون يحفرون من «رَاتِج» إلى «ذُباب» والأنصار من «ذُباب» إلى «جبل بني عبيد»(10).
وورد أنّه قطع لكلّ عشرة أربعين ذراعا(11)؛ أي: كلّ رجل يحفر أربعة اذرع طولا: في تسعة عرضا. في خمسة اذرع عمقا في الأرض.
فإذا علمنا أنّ المسلمين كانوا ثلاثة آلاف: على أصحّ القولين، يمكننا أن نقدّر المدّة الّتي استغرقها الحفر: إذ فيها خلاف يلفت انتباه الباحث المحقّق!
الرّوايات تقول إنّ النبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - حين بلغه نبأ اجتماع الأحزاب، استشار أصحابه؛ فأشار عليه سلمان الفارسيّ - رضي الله عنه - بالخندق؛ فأعجب ذلك المسلمين؛ فخرج بهم رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وعسكر بهم إلى سفح «سَلْع».
وكان المسلمون - يومئذ - ثلاثة آلاف، ثم خندق على المدينة: فعمل فيه رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - بيده لينشط المسلمين - وجعل المسلمون يعملون مستعجلين يبادرون قدوم العدوّ عليهم(12).
هذا السياق يدلّ على أنّ حفر الخندق بدأ بعد أن اجتمعت جيوش الأحزاب، وخرجت تبغي المدينة.
فكم يحتاج جيش تعداده عشرة آلاف من مدّة ليقطع المسافة بين مكّة والمدينة، أو بين نجد والمدينة؟
أمّا من مكة إلى المدينة فليس أقلّ من عشر ليال، وربّما خمس عشرة ليلة؛ إذا كان سير الجيش بطيئا: لكنّه لن يستغرق أكثر من ذلك؛ لأنّ قادة الجيش يبادرون من جهتهم - أيضاً - الإسراع في سيرهم: لمباغتة المسلمين؛ قبل أن يستعدّوا.
فهل يتصور أن يستغرق حفر الخندق أكثر من عشر ليال؛ والمسلمون يعملون مستعجلين يبادرون قدوم عدوّهم عليهم؟
قال «موسى بن عقبة»: استغرق حفره قريبا من عشرين ليلة(13).
وقال «الواقديّ»: قريبا من أربع وعشرين(14).
وقال «ابن القيّم»: استغرق شهرا(15).
وقال «ابن سعد»: ستّة أيّام(16).
وكذا روي «الواقديّ» عن «عبد الحميد بن جعفر» عن أبيه(17).
وهذا هو الّذي نرجّحه: لأنّها المدّة الّتي تتناسب مع المدّة التي يمكن لجيش الأحزاب أن يصل خلالها إلى المدينة.
ومن حيث إمكان إنجاز الحفر - أيضا - فإنّ ثلاثة آلاف يمكن أن يحفر كلّ واحد منهم أربعة أذرع في تسعة في خمسة؛ أي: مائة وثمانين ذراعا مكعبّا؛ وذلك خلال ستّة أيّام؛ بل يحفر أكثر من ذلك.
وقد كان عدد الّذين اشتركوا في الحفر أكثر مّمن حضر الحرب نفسها، وثلاثة آلاف؛ هذا عدد المسلمين الّذين أجازهم النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - لحضور المعركة نفسها.
فقد ورد انّه - صلّى الله عليه وسلّم - لما فرغ المسلمون من حفر الخندق، ولحم الأمر ردّ كلّ من لم يبلغ، وأمره أن يرجع إلى أهله إلى الآطام مع الذّراري(18).
هل هناك خنادق أخرى؟
ورد عند «الواقديّ»(19)، و«ابن سعد»(20) رواية: أنّ «بني عبد الأشهل» خندقت عليها فيما يلي «راتج» إلى خلفها؛ حتّى جاء الخندق من وراء المسجد. وخندقت «بنو دينار» من عند «حخُرْبى» إلى موضع دار «ابن أبي الجنوب»، وخندق بعضهم حول ألاطام بقباء.
لكنّ هذه الخنادق الصّغيرة غير الخندق الأساسيّ النّبويّ؛ الّذي امتدّ من جبل «بني عبيد» غربا إلى «راتج» شرقا، قال «الواقديّ» في هذا التّحديد: وهذا أثبت الأحاديث عندنا(21).
قال المطريّ»(22): فحفره رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - طولا من أعلى وادي «بطحان» غربي الوادي: مع الحرّة إلى غربي المصلّى (مصلّى رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم- يوم العيد)(23)، ثم إلى مسجد الفتح، ثمّ إلى الجبلين الصّغيرين الّلذين في غربي الوادي؛ يقال لأحدهما «رابح» [؟] وللآخر جبل «بني عبيد» / 1هـ.
فهذا القول من «المطريّ» غلط واضح، والخندق بهذا التّحديد لا قيمة له من النّاحية العسكريّة: لأنّه يقع غربي المدينة؛ حيث حرّة «الوبرة» تمثّل مانعا طبيعيّا؛ فلا تحتاج إلى حفر خندق من هذه الجهة؛ بينما يبقى مدخل المدينة النبويّة في شمالها مفتوحا مكشوفا: وهو ما يقع شرقيّ جبل بني عبيد» على «راتج» أو «أجم الشّيخين». الواقع في طرف حرّة «بني حارثة»، التي هي جزء من الحرّة الشّرقيّة، حرّة «واقم» ولما بيّنا من أنّه لا قيمة لحفر الخندق من الجهة الغربيّة: فإنّنا لا نرى حاجة لما قاله «السّمهوديّ» تعليقا أو تفسيرا لكلام «المطريّ» هذا(24).
هل تتبنّى إمارة المدينة النّبويّة مشروعاً يبرز هذا المعلم النّبويّ العظيم، ويحميه من عدوان النّاس؟
خـاتـمـة:
اليوم - وما أدراك ما اليوم - لا يوجد أيّ دليل يرشد السّائلين إلى معالم الخندق!! بل حتّى الباحث الّذي يعرف تحديده يصعب عليه تطبيقه على الطبيعة؛ لأنّ تفشّي العمران؛ مع إهمال المعالم التّاريخيّة، جعل ذلك في غاية من الصّعوبة.
أمّا أجم الشّيخين: فكان موجودا إلى عهد قريب في إطراف حرّة بني حارثة، وكنتُ إذا خرجتُ مع طلابي لدراسة الخندق، نبدأ به، وذات يوم قصدناه، فلم نجده، نسفه النّاس الّذين لا يعرفون تاريخهم!
ولم يبق معلم يدلّ على بداية خط الخندق إلاّ مسجد الشّيخين: فإنّ يحاذي ذلك الأجم؛ وهو الّذي يسميه النّاس - اليوم - مسجد الدّرع، أحاطت به الهياكل الخرسانيّة الخرساء من كلّ جانب، حتّى توارى حزينا مقهورا يندب أهل هذا الزّمان!
أقترح على إمارة المدينة النّبويّة تبنّي مشروع يبرز هذا العلم النّبويّ العظيم، الّّذي يتشوّق كل مسلم إلى رؤيته مجسّما في موقعه.
وليكن إبرازه على هيئة شارع ينفذ على خط الخندق، الّذي خطّه رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - بنفسه.
أو على الأقلّ يجب المحافظة على المعالم المتبقيّة للخندق، وإبرازها بالشّكل الّلائق، وحمايتها من عدوان النّاس: وهي:
مسجد الشّيخين.
وجبل ذُباب.
ومسجد الرّاية؛ الّذي في قمتّه.
ومساجد الفتح: غربيّ سلع.
وجبل فتّى.
الهـوامـش
1) على أنّ الذراع يساوي (61.2) سم/ انظر: الفقه الإسلاميّ - للزّحبليّ.
2) انظر: الأقوال الكافية والعقول الشّافية في الخبل - للملك عليّ بن داود الرّسوليّ الغّانيّ (المتوفى سنة 764) ص 178.
3) المغازي: 2/ 446.
4) سبل الهدى والرشاد: 4/ 568.
5) 1/ 47.
6) المغازي: 2/ 447.
7) نفس المصدر.
8) نفس المصدر: 2/ 446.
9) مسند الإمام أحمد (انظر: الفتح الرّباني: 21/ 78.
10) الواقديّ: 2/ 446. وابن سعد في الطبقات: 2/ 66. وابن جرير في التّاريخ: 2/ 568.
11) سبق في رواية كثير بن عبد الله بن عوف المزنيّ. عن أبيه، عن جدّه، أخرجها الحاكم في المستدرك: 3/ 598. والبيهقيّ في الدّلائل: 3/ 417، وراجع مجمع الزوائد: 6/ 130.
12) انظر: عيون الأثر: 2/ 57، والصّالحيّ: 4/ 515.
13) و14) فتح الباري: 7/ 394.
15) زاد المعاد.
16) الطبقات: 2/ 67.
17) المغازي: 2/ 454.
18) نفس المصدر: 2/ 453.
19) نفس المصدر: 2/ 450.
20) الطبقات: 2/ 66.
21) المغازي: 2/ 452.
22) التّعريف بما آنست الهجرة من معالم دار الهجرة: ص 62.
23) وهو الذي يسميّه العزامّ - اليوم - مسجد الغمامة، وصوابه أن يسمّى «مسجد المصلّى».
المدينة المنورة/ العدد 8707
الاثنين 2 رمضان 1411هـ، 18 مارس 1991م.
مـن معـالم المـدينـة النّبـويّـة
الخنــــدق
بقلم: الدكتور أبي مجاهد عبد العزيز عبد الفتّاح القارئ
في شوّال من السّنة الخامسة من الهجرة النّبويّة(1) وقعت غزوة الخندق: نسبة على «الخندق» الّذي حفره رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وتسمّى - أيضا- غزوة الأحزاب: وهم الأحزاب الذين اجتمعوا لغزو المدينة، قريش وأحابيشها(2) وغطفان، وفرازة، وأسد، ومن تبعهم، وكان من سبب ذلك أنّ تفرا من يهود حرّضوا هذه القبائل على غزو المدينة؛ للقضاء على رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وأصحابه: وهؤلاء النّفر هم: سلام بن أبي الحقيق النّضري، وحيي بن اخطب النّضري، وكنانة بن أبي الحقيق النّضريّ، وهوذة بن قيس الوائليّ، وهذان من بني وائل.
فأقبلت جيوش الأحزاب تبغي المدينة، قريش وأحابيشها، ومن تبعها من بني كنانة، وأهل تهامة: بقيادة أبي سفيان بن حرب، وغطفان وفرازة، ومن تبعهم، من أهل نجد: يقودهم «عببنة بن حصن» في بني فرازة، و«الحارث بن عوف المرّيّ» في بني مرّة، و«مسعود بن دخيلة» فيمن تابعه من أشجع، وطلحة بن خويلد الأسديّ» في بني أسد، وكان مجموع جيوش الأحزاب عشرة آلاف. قريش ومن تبعها أربعة آلاف، وغطفان، وفرازة، ومن تبعهم ستّة آلاف، معهم خمسة ألف وخمسمائة بعير، وثلاثمائة فرس(3)، فلّما بلغت أنباء هذه الجموع رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - عقد مجلس شورا، وتداول الأمر مع وجود أصحابه: فأشار عليه سلمان الفارسيّ - رضي الله عنه - بالخندق: قائلا: إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندَقْنَا علينا(4).
ولم تكن العرب تعرف هذه المكيدة ولا أمثالها، إنّما كانت من مكايد الفرس في حروبها. ذكر «الطبريّ» أنّ أوّل من خندق: من ملوك الفرس، بنو شهر ابن أبيرج بن أفريدون(5).
ولذلك لّما وصلت جيوش الأحزاب إلى مدخل المدينة، ورأوا الخندق حاجزا بينهم وبيننا تحيّروا، وتغيّظا من ذلك وقالوا: هذه والله مكيدة ما كانت العرب تكيدها.
وحفر الخندق أراد بالنّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - أن يعوّض الفارق الكبير في العدد والعدّة بين المسلمين وبين جيوش الأحزاب: وإنّما تُعرف أهميّة هذه الخطوة العسكرية وأثرها الحاسم؛ في هذه المعركة. إذا بينّا ما يأتي:
1- أنّ هدف العدوّ كان غزو المدينة، وإبادة المسلمين.
2- الفارق كبير بين الطّرفين: فالمسلمون في ثلاث آلاف، والأحزاب في عشرة.
3- لم يكن المسلمون مطمئنين لطرفين في الدّاخل؛ هما: المنافقون، ويهود قريظة؛ فهناك خطر ماثل من التّطويق.
4- للمدينة النّبويّة مدخل واحد يمكن أن تنفذ من الجيوش غليها؛ وهو في شماليّها؛ فهي محاطة من الجهات الثّلاث الأخرى بالحرّات، والحرّة هي ارض صخريّة وعرة: صخورها بركانيّة سوداء، يصعب المشي فيها، وتتخللها ومسالك وطرقات تقضي إلى المدينة، لكنّها ضيّقة لا تستطيع الجيوش أن تنفذ منها؛ فمن الشرق: حرّة واقم، ومن الغرب: حرّة الوبرة، ثمّ تلتقي الحرّتان جنوبا؛ مشكّلة بذلك طوقا من الموانع الطّبيعيّة حمى الله به مدينة حبيبه المصطفى - صلّى الله عليه وسلّم.
يضمّ إلى هذا الطوّق ما تدّل عليه المصادر من أنّ منازل أهل المدينة وبساتينها كانت تشكّل الطّوق الثاّني الّذي يكّمل الأوّل: إذا لم تكن البيوت كلّها في منطقة المسجد النّبويّ، بل كانت محيطة بها كالسّوار من الأطراف، وسبب ذلك اختلاف منازل القبائل، وتفرّقها في أطراف المدينة من سائر نواحيها، والمدينة في وسط شريد من الأراضي السّهلة يمتدّ من الجنوب إلى الشمال، ومدخله من الشّمال؛ حيث جبل أحد؛ فكلّ من أتى المدينة من الجيوش من الشّرق أو من الغرب إنّما يدخلها من هناك.
ولذلك فإنّ قريشا لّما وصلت المدينة بجيشها، قدمت من جهة ذي الحليفة، ثمّ إلى العقيق من غربي جماء أم خالد(6)، ثم إلى الأسيال(7) من رومة(8) فنزلت هناك بين الجرف(9) وزغابة(10).
وأمّا غطفان، ومن تبعهم من قبائل نجد: فأقبلوا من الشّرق: حتّى نزلوا بذنب نَقَمَى(11) إلى الجانب الشّرقيّ من أحد.
هذا الموقع للمدينة النّبويّة - يتبيّن منه ما أدّى إليه حفر الخندق من فائدة عسكريّة هامّة؛ لقد اغلق المدخل الوحيد إلى المدينة.
وتمثّلت الخطّة العسكريّة الّتي أحكم حلقاتها رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - بحنكة وذكاء. في الخطوات الآنية:
أ. تَحَصّنّ في المدينة؛ ولم يخرج للاشتراك مع جيوش الأعداء في أرض مكشوفة: إذ لو فعل ذلك فإنّ خطر التّطويق فالإبادة يكون محقّقا.
ب. أغلق المدخل الوحيد للمدينة بالخندق.
ج. عسكر بجيش المسلمين على منازل الخندق حيث يفصل بينه وبين عدوّه، واتخذ لذلك موقعا حصينا؛ جَعل سَلْعا وراءه والخندق أمامه بينه وبين عدوّه.
ثمّ بعد انتهاء أعمال الحفر، اتّخذ موقعا عسكرياً آخر للقيادة النّبويّة؛ حيث ضربت قبّته على جبل ذُباب الّذي يتوسّط في موقعه خطّ الخندق ويستطيع النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم- من فوق قمتّه أن يشرف على أعمال الحفر الجارية أمام هذا الجبل: شرقا وغرباً.
ثمّ بعد انتهاء أعمال الحفر، اتّخذ موقعا عسكريًا آخر للقيادة النّبويّة؛ حيث ضربت قبتّه غربي سَلْع: حيث معسكر قريش أمامه في سهول وادي العقيق في مجتمع الأسيال.
د. سيّر النبيّ - صلّى الله عليه وسلّم- دوريّات عسكريّة متحرّكة تحرس باستمرار سائر جهات الخندق: بينما دوريّات أخرى تتحرّك داخل المدينة، أحيانا زيد بن حارثة على رأس ثلاثمائة رجل، وأحيانا سلمة بن أسلم على رأس مائتين؛ فقد كان الخوف من غدر قريظة والمنافقين واردا. وكان عبّاد بن بشر على حرس رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - مع غيره من الأنصار يحرسونه كلّ ليلة، وقيل الزّبير بن العوام(12).
هـ. أمّا النّساء والذّرْبة فجمعهم- النبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - في لعض الحصون والآطام المنيعة، وكان أمّهات المؤمنين في أطم بني حارثة؛ ويقال في المسير؛ وهو أطم في بني زريق، ويقال: كان بعضهم في فارع(13).
حفر الخندق وتحديد موقعه:
عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزنيّ، عن أبيه، عن جدّه، أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - خطّ الخندق عام حرب الأحزاب؛ حتّى بلغ المذاجِح؛ فقطع لكلّ عشرة أربعين ذراعاَ - الحديث.
هكذا في «المستدرك» للحاكم(14)، وفي «دلائل النّبوّة» للبيهقيّ: خطّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - الخندق، عام الأحزاب، من أجم السّمر (؟) طرف بني حارثة حين (؟) بلغ المداد (؟) ثم قطع أربعين ذراعا بين كلّ عشرة(15). هكذا في النّسخة المطبوعة بتحقيق الدّكتور عبد المعطي قلعجيّ. ولا أدري ماذا حقّق هذا «القلعجيّ» إذا كان في هذا الخبر فقط ثلاثة تصحيفات، ولا بنيّة عليها في الهامش؛ ممّا يدّل على أنّه هو مصدر التحريف والتّصحيف.
وورد الخبر في «الزّوائد» أيضا محرفا، عن عمرو بن عوف المزنّي أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - خطّ الخندق من أحمر (؟) السّبختين (؟) طرف بني حارثة، عام حزب الأحزاب، حتّى بلغ المداحج (؟)، فقطع لكلّ عشرة أربعين ذراعا(16).
أمّا أجّم السّمر) و«أحمر السّبختين» فتحريف لـ (المذاد) بالذال المعجمة، وسيأتي التّعريف بهذه المواضع.
وأمّا «الواقديّ» فقال: حدّثني أبو بكر بن أبي سيرة، قال: حدّثني أبو بكر بن عبد الله بن جهم: أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - ركب فرسا له، ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعا ينزله: فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل (سَلْعا) خلف ظهره، وبخندق من (المذاد) إلى (ذباب) إلى (راتح). فعمل - يومئذ- في الخندق، وندب النّاس؛ فخبرهم بدنوّ عدوَهم، وعسكرهم إلى سفح (سَلع).
وجعل المسلمون يعملون مستعجلين يبادرون قدوم العدوّ عليهم، واخذ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - يعمل معهم في الخندق؛ لينشط المسلمين، وعملوا، واستعاروا، من بني قريظة، آلة كثيرة من مساحي، وكرازين، ومكائل(17)، يحفرون به الخندق: وهم - يومئذ- سلم للنّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم- يكرهون قدوم قريش، ووكل رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم- بكلّ جانب من الخندق قوما يحفرونه؛ فكان المهاجرون يحفرون (راتج) إلى (ذباب). وكانت الأنصار تحفر من (ذباب) إلى جبل (بني عبيد). وكان سائر المدينة مشيكا بالبنيان.
قال «الواقديّ»: قالوا: وكان الخندق ما بين جبل (بني عبيد) بـ (خُرْبَى) إلى (راتج) : فكانت للمهاجرين من (ذباب) إلى (راتج). وكان للأنصار ما بين (ذبا) إلى (حُربى)، فهذا الّذي حفر رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم- والمسلمون، وشبلَوا المدينة بالسيان من كلّ ناحية؛ وهي كالحصن، وخندقت بنو عبد الأشهل(18) عليها فيما يلي (راتج) إلى خلفها، حتى جاء الخندق من وراء المسجد، وخندقت بنو دينار(19) من عند (خربى) إلى موضع دار ابن أبي الجنوب اليوم.
ونصّ آخر أورده «الواقديّ» في تحديد خطّ الخندق، قال: وحدّثني أفلح بن سعيد عن محمد بن كعب قال: كان الخندق الّذي خندق رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم- ما بين جبل (بني عبيد) إلى (راتج).
قال «الواقديّ»: وهذا أثبت الأحاديث عندنا، وذكروا أنّ الخندق له ابواب فلسنا ندري أين موضعها(20).
قلت: لعلّ هذه الأبواب أنشئت فيما بعد: لتكون مسالك للّناس يعبرون منها.
أمّا حديث كثيّر بن عبد الله بن عوف؛ فقال عنه «الذّهبيّ»: ضعيف(21) ونعلم أنّ علتّه عنده (كثيّر) نفسه.
وقد قال فيه: «الهيثميّ»: ضعّفه الجمهور.
وحسّن التّرمذيّ حديثه. وبقيّة رجاله ثقات(22).
ولكن يعضدّه مع ذلك حديث «الواقديّ»، وإن كان إسناده ضعيفا - أيضا- فيه أبو بكر بن أبي سيرة، هو ابن عبد الله بن محمّد بن أبي سيرة ابن أبي رهم القرشيّ العامريّ المدنيّ.
قال «الحافظ» في «التقّريب»: رموه بالوضع.
وقال «مصعب الزّبيري»: كان عالما(23).
قلت: والكلام فيه كالكلام في «الواقديّ» نفسه.
وهذا الّذي روي في هذين الخبرين الضّعيفين هو المشهور، عند أهل التّاريخ والسّير؛ ذكره «الواقديّ». و«ابن سعد» و«ابن جرير» و«البيهقيّ». وابن سيّد النّاس». والصّالحيّ» في «السّيرة النّاميّة». وذكره «السّمهوديّ» في كتابه «وفاء الوفاء» و«خلاصة الوفاء».
فأمّا «أحم الشّييخين»: وفي بعض الرّوايات (أجمة). آجام المدينة وآطامها: حصونها. وقال ابن السّكيت: أجم حصن بناء أهل المدينة وكلَ بيت مربع مسطّح آجم(24).
و(الشيخان): موضع يقال له ثنية شيخان(25) وقال المطريّ: هو موضع بين المدينة وجبل أحد على الطريق الشّرقية مع الحرّة إلى جبل أحد، قال: خرج النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم- هو وأصحابه لأحد على الحرّة الشرقيّة حرّة واقم، ويات بالشيخين.
وهذا الأجم كان موجودا إلى عهد قريب على يمين السّالك طريق سيّد الشّهداء متجها شمالا: في داخل الحرّة، ثمّ أزاله النّاس، ويقابله على يسار الطّريق، بل يحاذيه مسجد الشّيخين، ويقال مسجد الدّرع.
وأما (المذاد): فأطم لبني حرام من بني سلمة غربي مسجد الفتح: به سميّت النّاحية.
قال كعب بن مالك يوم الخندق:
مَـنَ سَـرَّه ضّـرب بـرعيـل بـعضُـه
بعضـا كمـعـمـعـة الأبـاء المُـحْـرقِ
فـليـأتِ مَـا سَنـده تسـلّ سيـوفهـا
بـين (المـذاد) وبـين جـزع الخندق(26)
و(رابح) بالمثناة الفوقيّة بعد الألف ثمّ جيم، أطم سميت به النّاحية، وكان ليهود، ثم صار لبني الجذماء، ثم صار لأهل رابح خلفاء بني عبد الأشهل.
قال «السّمهوديّ»: وسبق في راتج أنه في شرقي ذباب جانحا إلى الشّام، ولهذا خندقت بنو عبد الأشهل منه إلى طرف حرّتهم؛ وهو طرف بني حارثة(27).
قلت: وقد عجبت من وهم الشريف «العيّاشي» حيث حزم بأن راتج هو ذباب.
وأنّ مسجد راتج هو المسجد الّذي على ذباب (مسجد الرّايه) وذباب هو الّذي يسمّى «القرين التّحتانيّ» فذباب، وراتج، والقرين التّحتاتيّ، أسماء لجبل واحد عمده(28) ولكن الخبر يقول: من راتج إلى ذباب، فكيف يكونان شيئا واحدا؟
وبداية الخندق - كما دلت عليه الأخبار: أجم الشّيخين، أو أطم راتج؛ وهما في ناحية واحدة، متقاربان في الموقع؛ كلاهما في طرف حرّة بني حارثة، والّتي هي الطّرف الغربيّ الشّمالي من الحرّة الشّرقية (حرّة واقم).
فإذا كان المقصود هو إغلاق مدخل المدينة، فلم يتركون مدخلها شرقي ذباب؟ لا شكّ أنّه وهم من خبير.
جبل (بني عبيد) قال «السّمهوديّ»: بمنازلهم غربي مساجد الفتح(29).
وبنو عبيد بن بني سلمة، وجبلاهم هذا هو الّذي يسّمى بالدُّويخل؛ وهو جبل (فتىّ) على وزن (حَقَّ). ويقع غربي وادي بطحان ومساجد الفتح في حرّة بني سلمة، وهي من الحرّة الغربيّة (حرّة الربوة).
(خْرَبَى) كحُبلَى، منزلة لبني سلمة فيما بين مسجد القبلتين إلى (المذاد)(30) وردت بالخاء والزّاي المعجمتين، ووردت بالحاء المهملة، والأصّح في ضبطه ضمّ الخاء المعجمة، وورد بفتح الحاء المهملة.
يقول كعب بن مالك:
فـلولا ابنـة العبسـيّ لم أتـلق نيافـني
كـلالا ولم توضـع إلىّ غـير موضـعٍ
فتـلك الّتـي إن تمسِ بالجـرف دارهـا
وأمسِ (بحَزْنا) تمسِ ذِكْرَنُـا معـي
(للبحث بقيّة، وتتضّمن خريطة الخندق)
الهـوامـش:
1) هذا هو الصّحيح؛ لما ورد في ابن إسحاق (انظر: السّيرة النّبويّة - لابن هشام 2/140). وغيره من المصادر، وذكر ابن سعد أنّها في ذي القعدة (الطّبقات: 2/65- طبعة دار صادر).
وذكر «البخاريّ» تعليقا، عن موسى بن عقبة، أنّها في شّوال سنة أربع (الفتح: 7/392) فكأنّما اختار «البخاريّ» قول ابن عقبة: لأنّه عنده يقوّيه الحديث الذي أسنده عن ابن عمر أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عرضه، يوم أحد: وهو ابن أربع عشرة سنة؛ فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق: وهو ابن خمس عشرة سنة؛ فأجاز.
وليس في هذا دليل على ما ذهب إليه؛ لأنّه لا يمنع أنّه عندما عرض عليه يوم الخندق كان عمره زائدا على خمس عشرة بسنة أو سنتين؛ إذ المهمّ أنّه بلغ السّنّ الّتي هي مناط الإجازة للحرب؛ وهي خمس عشرة (انظر: الفصول في سيرة الرسول -صلّى الله عليه وسلّم : ص146). و(فتح الباري؛ 7/393).
2) نسبة إلى جبل حبشي: بأسفل مكّة؛ كان اجتمع عنده في الجاهليّة ناس من القبائل: فحالفوا قريشا، أو تحالفوا فيما بينهم بالله: إنّا ليد على غيرنا ما سجاليل ووضح نهار وما أرسي حَبْشي مكانه؛ فسمّوا (حابيش قريش (السّيرة الشّاميّة: 4/ 375).
3) السّيرة النّبويّة -لابن هشام- طبعة بولاق: 2/140، ومغازي الواقديّ: 2/44. والطبقات لابن سعد - طبعة دار صادر: 2/66.
4) رواه ابو معشر (انظر: فتح: 7/393).
5) انظر: الرّوض الأنف -للسّهبليّ - طبعة السّلطان عبد الحفيظ: 2/187.
6) أحدى الجماوات الثّلاث: وهي من بينها الّتي تقع قبليّ الجامعة الإسلامية.
7) هو ملتقى وديان المدينة: بطحان، والعقيق، وقناة، ومهزور؛ كلّها تلتقى بزغابة غربي جبل أحد؛ فيسّمى ذلك الملتقى بمجتمع الأسيال.
8) بضمّ الراء. وسكون الواو، وفتح المهم. بعدها هاء؛ وهي البئر المشهورة؛ في أسفل العقيق، قريبة من مجتمع الأسيال، وهي -الآن- داخل الوحدة الزرّاعية في طرف حي الأزهريّ.
9) بضّم الجيم، وسكون الرّاء، وقيل بضّمهما؛ موضع في شمال المدينة الغّربيّ، قال ابن سعد: على ثلاثة أميال منها، والعرصة الكبرى التي بها بئر رومة تختلف بالجرف، فتّتسع. قيل: والجرف ما بين محجّة الشام إلى القصّاصين، ومحجّة الشام الطريق الذي يسلكه الحاجّ الشّاميّ: وهو يأتي من وادي مخيض، ثمّ بنيخ الرّكب الشّاميّ في آخر منطقة الجرف ممّا يلي جبل غرابات وغرات الضائلة (وهو ما يسّمى جبل اليوم) القصّاصين أصحاب (القصّة) (انظر: وفاء الوفاء: 175. والمدينة بين الماضي والحاضر للعيّاشيّ: ص487).
10) كسحابة؛ في مجتمع الأسيال آخر العقيق، غربي قبر حمزة -رضي الله عنه- وهي أعلى إضم. وقال ابن جرير: إن زغابة لا تعرف، مع أنّها مذكورة في الحديث (وفاء الوفاء: 1227).
11) هكذا: بفتح حروفه الثّلاثة؛ موضع يقرب أحد؛ هكذا عرّفه «السّمهويّ» رواه «الفيروزاباديّ»، وليس هذا بكاف، والمعروف أنّه من أودية المدينة الشّرقيّة؛ يلتقي بوادي نعمان؛ شرقي جبل أحد بين الوعيرتين وبين أحد (وفاء الوفاء: 1323) (المغانم المطابة: 414) العيّاشيّ إبراهيم: 491).
12) انظر: ابن سعد: 2/ 67، وعيون الأثر: 2/58.
13) الواقديّ: 2/454.
14) المستدرك: 2/589.
15) دلائل النّبوة - بتحقيق الدّكتور عبد المعطي قلعجيّ: 3/418.
16) مجمع الزوّائد: 6/130.
17) (المساحى) جمع مسحاة؛ وهي المجرفة من الحديد، والمهم زائدة لأنّه من السحو؛ وهو الكشف والإزالة.
و(الكرازين) جمع كرزين: الفأس.
و(المكاتل) جمع مكتل وهو (الزّنبيل). يصنع من الخوص.
(السّيرة الشّاميّة؛ 4/567) (المصباح المنير: كتل).
18) من قبائل الأنصار، ومساكنهم شرقيّ ذباب إلى طرف حرّة بني حارثة.
19) من قبائل الخزرج من الأنصار، ومساكنهم غربي بطحان من الحرّة الغربيّة، وهي المنطقة الّتي فيها السّقيا وجبل أنعم والمغيسلة.
20) الواقديّ: 2/450، 451، 452.
21) المستدرك: 3/598.
22) مجمع الزّوائد: 6/130.
23) التّقريب: 2/397.
24) وفاء الوفاء: 1121.
25) نفس المصدر: 1249.
26) نفس المصدر: 1302.
27) نفس المصدر: 1215.
28) المدينة بين الماضي والحاضر: 358.
29) وفاء الوفاء: 1173.
30) نفس المصدر: 1200.
شاركنا رايك عبر الفيس بوك